" نسيتُ من يدهِ ، أن أسترد يدي "


14 سبتمبر 2011

إليكِ ياجدتي .. وقد بلغت الرسائل عنان السماء ولم تجيبيني بعد !

هربتُ من إحياء سهر هذه الذكرى إلى النوم ؛ فأتيتني مناماً/ دموعاً … يا جدتي أنتِ تُكملين غيابكِ للسنة الرابعه وقلبي أعياه الحزن والتزامن .. أمّا عن التزامن : فقد تزامن معكِ في الغياب - مساء امس - ذلك العجوز الطيّب . تعرّفنا عليه بعد ما فقدناكِ ووجدناه يعرفكِ … من لا يعرفكِ يا لؤلؤة فؤادي ؟ ربما كانت إشارة كونيّة تخص الطيبين ..تذيق ذويهم الحزن وملح الدمع ،تقطع تفاصيل الحاضر ليصبح ماضٍ وذكرى !
تحاملت على نفسي وأنا أضع عيني بعين أمي البارحة حين تنهدتْ ذكراكِ ، وتحاملت أمي أن تبكي أمامي فسمعتُ نحيب الباب … وآهة عقر الدار وحنين السرداب … ماذا عنكِ ؟ هل أعجبكِ الموت فأردتيه استقراراً ؟ أذكر أنكِ لستِ أهلاً لتقيمي في مكان واحد يومين - على الأكثر - !! مالذي تغيّر الآن ؟ مالذي حدث لتمكثي هناك طويلا ؟ ألم يخطر لك أننا ننتظركِ في مساء كل خميس عند بابكِ .. نُطيل الوقوف .. نُطيل شهقةً لايزفرها غيابكِ .. تأتي لكِ ابنتكِ “ نوره - أمي “ ببناتها الأربع وولديها الأثنين .. تأتي الأولى في كل مرة .. وفي كلّ مرة تفتحين الباب نتسابق عليكِ أنا واخواني الخمسة .. ولا تنتهين عن هروبكِ حين تفتحين الباب وتقطعين صوت التخمين في رؤسنا : من سيسبقني لها ؟ تقولين أنكِ تُحبين فعل ذلك حتى تسمعين صوت أقدامنا وهي تركض بفوضى لاحقة بكِ إلى الصالون !! حسنا نحنُ كبرنا الآن لم نعد نركض لكننا لم نعد نمشي ايضا لقد جرّبنا الحبو وكان مفيدا … من يدري ربما ندرككِ بالحبو أكثر من الركض ! لاشيء بعدكِ يستحق الركض إليه … لا شيء !
منذُ غيابكِ لا أحد يتقنُ مناداتي كما تتقنيها .. لا أحد يقول : وِفا - بكسر الواو .. ستقولين أبي أليس كذلك ؟ وسأقول بأن أبي يتفرّد بـ ( تضخيم الواو ) قصدا .. ربما يعلم أني انكسر من الداخل حين لا أسمع اسمي على غرار ماتُسمعينني أنتِ .. يعتقد بذلك أنه يربطُ على قلبي وهو على عكس ذلك يُفرطه كـ مسبحه !  أنا لا ألومه ولا ألوم غيره حين يحصل اختلافا على ذلك … لكنني ألوم نفسي في كلّ مرة : لم ِ لم أنتزع السرطان من أحشائك وارميه بقلبي !! لمَ لم أسلب منكِ تأوهكِ حين تفزعين من الألم والليل ليل … لا زلتُ أتحسس يدي .. وأذكرُ حين أدسّها بقبضتك ثم اتمتم : افرغي ألمكِ بي . لاشيء يستحقُ الوجود إن لم اشارككِ ذلك …. في كلّ مرة يضطهدكِ الألم كانت أمي تبكي بصوت لا يُسمع .. كانت توجه وجهها دعاءا .. كانت تضغطُ بقدميها على سجادتها كلمّا ارتفع صوتكِ ألما … كلّهم يهربون وجعاِ .. كلّهم يغادر ؛ إلا أنا .. أنا أضلُّ وجعا … أضلُّ دمعا …!
أذكرُ لقائنا الأخير وليتني لا أذكره …. يعذبني ياجدتي .. يعذبني .. كان عيدا آنذاك لكنّه لم يكن كما يكون لغيرنا .. طلبتِ أن نجتمع في منزل خالي الصغير - آخرُ عنقودكِِ - … اتينا لنوحي لكِ بأننا سنصع لكِ عيدكِ إن اردتي .. اذكر أني دخلتُ حيث الغرفة التي قضيتِ بها آخر ما قضيتِ .. كان خالي يلقمكِ بيمينه كوب الحليب .. تشربينه ببطء وأنتِ ترقبين دخولي .وذبولكِ صار ذبولي .. لا أعلم لمِ ابتسمتي حينها وأنتِ تُطيلين التحديق بي .. تدارك الموقف خالي الآخر ظناً بأن الألم انساكِ أي أحفادكِ أكون وقال : هذي وفو ! .. هززتِ رأسكِ وخيط الإبتسامة ظل معلقاً في أسفل وجهكِ .. اقتربتُ منكِ .. قبّلتكِ وأنا اداري ضعفي أخذتِ بيدي كناية عن : أن اقتربي … لازمتكِ حتى تآكل قلبي وأتى ابن خالي فاظطررتُ للخروج … لم استطع بعدها الدخول إليكِ .. كان المكان يعجّ بالرجال ! 
وحين أردنا المغادرة كان مفعول المسكن قد بدأ وكنتِ تستسلمين له .. لم استطع المرور بكِ حتى لا أزعجكِ .. لم أدري أنها الأخيرة وإلا لما فارقتك .. لم أدري أنها الأخيرة وإلا لعقدتُ هدنة الموت معي … بعد ذلك بـ اربعة عشر يوماً .. كنتِ في المشفى حيثُ ترافقكِ أمي .. كان يوم جمعة يكاد أن يولد الفجر من رحم الليل لكن ولادته تعسرت فخرج مشوها يحمل خيط ليل وبضع نهار … استعصى علي النوم حينها كأن قلبي يعلم … خرجت إلى الباحة الأمامية للبيت أخذتُ كتابا كان لدي فيه اختبار واغرقتُ نفسي بين صفحاته حتى قطع ذلك كلّه صوت هاتف أبي … ألم أخبركِ كان مستيقظا ايضاً … اقتربتُ منه وقلبي يكاد يتوقف … ادركت أنكِ فضلتي الرجوع إلى الأرض .. اختاركِ الموت واخترتِ رحيلكِ .. انسحبتِ بخفة إلى السماء وبقينا نلوح للريح … اذكر سقوطي واغماءاتي المتكرره .. اذكر شكل الموت وهيبته .. اذكر شكل الدموع حين بدأت تتخلقُ بشكل جديد لازمني حتى وقتي هذا … اذكرُ الصيف الذي اقتلب فجأة إلى شتاء … والغيمة التي لازمت بيتكِ الصغير … امطرته وامطرته وامطرته حتى انغسل كلّه … وترعرعت نبتة في آخر فناءه ثم حين ادركتِ أنكِ لن تلازميها السقاية .. ماتت !